مجرّد تقنية
عرض مستوحى من رواية “أحدب نوتردام” لـ فيكتور هوغو، 2016 (Getty)
كثيراً ما تَستخدم الفنون الثنائيات كي تعرض نقيضاً مقابل قرينهِ، وفي هذا تنجح في إيضاح الموضوع الذي تُعالجه وفق أسلوب في متناول المتلقّي، وهو المقارنة. كما تُخرِج الثنائيات الفنّ من تعقيد الحياة، من خلال التعامل مع مفاهيم مثل الخير والشرّ على نحو نظري. إذ يساعد الفصل بين الثنائيات على تناول الموضوع بوجهين، ما يجعل الأمور تنكشف ببساطة أمام المتلقي.
لربما أشهر ثنائية ترد إلى الأذهان، ثنائية الجمال والقبح، حيث اعتبر أفلاطون أنّ الجمال يمثّل الخير، والقبح يمثّل الشر. وهكذا من جرّاء ثقافة التلقّي الجماليّة التي صنعها إرث ممتدّ من المفاهيم، راح ينطوي ما هو جيّد وراء الجمال وما هو سيّئ وراء القبح. كذلك في السينما نجد الكائنات الشرّيرة التي تهدّد البشر كائنات قبيحة، كما لو أنّ القبح هو التهديد الذي يحيقُ بالبشر. بصورة عامّة، يرافق القبح الكذب والبخل والغدر، أمّا العدالة والشجاعة والحرية فترافق الجمال. وقد نجح البشر في ربط قاموسهم الجمالي بقاموس آخر موازٍ من القيم. وعند النظر إلى ما يشكّل ثقافتنا في مرآة ثنائية الجمال، والقبح نجد أمثلة كثيرة منها الجميلة والوحش. أبعد من ذلك فإنّ المقدّس جميل مثل النبي يوسف، والمذموم قبيح مثل يهوذا.
يبحث الفنّ عن استخدام القبح بما يخدم الجمال، ولربما يشكّل فيلم “الرجل الفيل” (1980) للمخرج الأميركي ديفيد لينش مثالاً نموذجياً عن استخدام القبح لتعزيز قيم إنسانية مثل التعاطف والرحمة. فالفيلم يتحدّث عن رجل بملامح دميمة وجسد مشوّه. يخرجه الدكتور الذي يلعب دوره أنطوني هوبكنز من السيرك، يساعده ويؤمّن له إقامة مدى الحياة في مستشفى لندن، وذلك بعد تخليصهِ من جشع مشغّله في السيرك. لكن ينبّهنا لينش هنا إلى أنّ الرجل الفيل صار موقع جشعٍ آخر، وهو جشع العلم. في الأحوال كافّةً، تتبدّى في الفيلم جماليات القبح في ما يتركهُ لدى المتلقي من آثار التعاطف.
المقدّس جميل مثل النبي يوسف، والمذموم قبيح مثل يهوذا
ويعرض المخرج حساسيّة الرجل الفيل العالية تجاه الجماليات من خلال تجوال الكاميرا في سقف المسرح ما إن ينظر الرجل الفيل عبر المنظار في دار الأوبرا، ومن خلال استغراقهِ في بناء هيكل كرتوني لكاتدرائية يراها من نافذة المستشفى، حتى إنّه يموت ما إن يكملها، إلى جانب تركيز الكاميرا – حيثُ ينظر الرجل الفيل – على اللوحات في غرفتهِ في المستشفى، والصور والتحف عندما يزور الطبيب في منزلهِ. إذاً، من خلال الكاميرا التي هي عينا الرجل الفيل، يقول لنا لينش: انتبهوا، الرجل الدميم يملك حساسية عالية إزاء الجمال قد لا تكون في متناول رجلٍ بوجه طبيعي، ويلمس المتلقّي الجمال الداخلي الذي يملأ الرجل الفيل.
مثال آخر استخدم القبح أيما استخدام، وهو فيكتور هوغو (1802 – 1885) في رواية “أحدب نوتردام”، فالأحدب کازیمودو يقع في حبّ أزميرالدا، عدا أنّ هوغو يبني الرواية بأكملها على فكرة مفادها أنّ الجمال يأتي من الانسجام. يشعر کازیمودو بجمالهِ عندما يتدلّى باستخدام السلاسل من الكنيسة، وينقذ أزميرالدا من الجلادين. وقد دفعه جمالها إلى تغيير ولائهِ للكاهن، لقد صار مديناً للجمال الذي جعله يبدو جميلاً في عينيهِ بعدما نبّهه عمله النبيل – بإنقاذهِ الجميلة – إلى جماله الداخلي. حتى عندما تشنق أزميرالدا، فإنّ الأحدب يرافقها إلى موتها، وما يبقى من القبح والجمال مجرّد هيكلين يضمّ أحدهما الآخر، حيثُ القبح يغمر الجمال.
في كلّ من الفيلم والرواية، يعي المتلقي ما يمكن أن يحدثه الفنّ في داخلهِ من انقلابٍ في مفهومه للجمال. ويتّضح القصور في تناول الوجود وفقاً لثنائيات محدّدة، ليكون استخدام الثنائيات في الفنون مجرّد تقنية تشيرُ إلى تعقيد الحياة. مع أنّ كلّاً من هوغو ولينش استخدم ثنائية القبح والجمال، إلا أنّ كلاً منهما استخدمها على طريقتهِ، وكشف للمتلقّي عن كِبَر الجمال الإنساني الذي يسكن قلب القبح.
* كاتب من سورية