اعمال

مخاطر عدم اتباع ممارسات العمل الخيرى المستدام!

خبر الازمة المالية التى يمر بها مستشفى 57357 فى مصر، والذى يقدم خدماته للالاف من الاطفال مرضى السرطان, ذكرنى بماقدمته فى محاضرة عام 2008 فى بداية الازمة المالية وقتها فى احدى الندوات الدولية, بعنوان: مستقبل الاقتصاد الاجتماعى, اوضحت فيها التوجهات العالمية وقتها التى أظهرت انخفاضا حادا فى حجم تدفقات اموال التبرعات للاعمال الخيرية فى العالم نظراً لتغيرات جوهرية فى طبيعة الاقتصاد العالمى والازمة المالية والاوضاع والسلوكيات الاجتماعية, ما يقرب من ثلثى الأسر الأمريكية تبرعوا لمنظمة خيرية. عام 2000 ، بينما فعل ذلك أقل من نصف الأسر الأمريكية عام 2018. بعبارة أخرى توقف حوالى 20 مليون أمريكى عن العطاء. ولم يكن هناك تفسير سهل لماذا توقف الكثيرون.

انخفاض التبرعات لوحظ أيضاً اثناء جائحة كوفيد 19, رغم زيادة الحاجة الى التبرعات لمواجهه الأزمة أظهر مسح العطاء العالمى أن 73 % من المؤسسات الخيرية شهدت انخفاضًا فى المساهمات التى تلقتها, نصفها توقع أن تشهد التبرعات انخفاضًا أكبر فى الفترة التالية, 29% منها سرحت موظفيها، وخفضت 17% رواتبهم .وتأخرت 15% من المؤسسات عن دفع الفواتير.

ولأن الامر جلل فقد انخرط خبراء الاعمال الاجتماعية فى دراسة مناهج تطوير الاعمال التجارية ومحاولة البحث فى كيفية الخروج بحلول اقتصادية تجابه التحولات الخطيرة فى قطاع العطاء الخيرى, والاستفادة من ممارسات الأعمال التجارية فى الاستثمار والادارة المالية لتعظيم الموارد وضمان تقديم الخدمة وتحقيق فوائض تسمح بالبقاء والنمو خاصة تصميم نماذج الأعمال, وظهر مصطلح الشركات الأعمال الاجتماعيةSocial business التى تمثل مؤسسة أو شركة تقديم المنتجات والخدمات غير الهادفة للربح المرتبطة بالمصالح الاجتماعية أو البيئية, بهدف ليس الوصول إلى الحد الأقصى من الأرباح المالية ولكن جعل المشروع الاجتماعى نفسه أكثر استدامة وتلقى عوائد مالية واجتماعية ، وبالتالى خدمة الفئات الاجتماعية المحرومة لأطول فترة.

هذه الممارسات الجديدة فى إدارة المؤسسات الخيرية وفق مفاهيم الادارة الاحترافية شبه التجارية, التى تنقل العطاء الخيرى الى الاستثمار الاجتماعي, مكنت الآلاف من المؤسسات الاجتماعية فى العالم, تعيش على العطاء من البقاء والاستدامة وتحقق الفوائض وسط الازمات المالية والاقتصادية المتتالية, على سبيل المثال مؤسسة سنتربوينت البريطانية توفر السكن والدعم للشباب بلامأوى من خلال شراكات فى جميع أنحاء المملكة المتحدة. وتمنح الشباب المشردين مكان إقامة ومستقبلًا من خلال فرص العمل, اوضح تقريرها السنوى عام 2019, انها حققت دخلا بلغ اجمالى 34 مليون استرلينى اقل من نصف المبلغ فقط من العطاء الخيرى والباقى من الاستثمارات الاجتماعية التى تدر عوائد تتخطى المصاريف, بإجمالى فائض 1.2 مليون فى نفس العام, وهذا يعنى ان هذه المؤسسة لديها القدرة على دمج العطاء والاستثمار واعادة استثمار الفائض فى التوسع وتطوير الاعمال, هذه المؤسسة تعمل وفق إطار الشفافية والمحاسبة كأساس للعلاقة بين المؤسسة والمتبرعين والشركاء, وتحديداً نجد التقارير المالية الخاصة بها على موقعها الالكترونى (الذى يستطيع القارئ مراجعته) توضح ليس فقط تفاصيل الانشطة ولكن المصاريف والرواتب لجميع العاملين بها, ويمكن معرفة تفاصيل راتب المدير العام وجميع العاملين بالمؤسسة, وإيقاف اى شائعات عن فساد او خلافة.

هذه الممارسات والشفافية والاحترافية, هى جزء من الاستدامة المالية والاخلاقية, وهى للاسف ما زالت غائبة فى الكثير من المجتمعات النامية, وغيابها يهدد مصير الكثير من المشروعات الضخمة التى تدار بالتبرعات, فهناك مؤسسات خيرية فى بلادنا تركز فقط على تحصيل التبرعات دون توفير بقية عناصر الاستدامة المالية والاستثمار الاجتماعى والشفافية والاحترافية, المؤسسات الكبيرة منها تركز على توظيف الاعلام بإصرار عجيب للوصول الى اكبر شريحة من الناس, معتقدين ان الحل السحرى هو زيادة التبرعات. فى زيارتى لاحد المستشفيات التى بُنيت بالكامل بالتبرعات خارج القاهرة فوجئت بحجم الرخام والفخامة فى الارضيات والديكورات وهناك صروح ضخمة شُيدت على نفقة المتبرعين, وكأن الفخامة جزء من العمل الخيري, بغض النظر عن كيفية الانفاق والاستدامة المالية التى تضمن تقديم الخدمات, وادعو مسئولى هذه المؤسسات الى زيارة الهند وبنجلاديش واندونيسيا والتعرف على كيفية إنفاق اكبر المؤسسات التنموية التى يستفيد منها عشرات الملايين من الفقراء, ليكتشفوا ان المشكلة ليست فى التبرعات, فمبنى اكبر بنك اجتماعى هناك بنك براك فى مبنى متواضع لكن المول التجارى الذى تملكه ويبيع منتجات الحرف اليدوية البنجلاديشية مبنى فخم لانه محل تجارى يدر ارباحا!. إن الازمة التى تتعرض لها مؤسسات خيرية تعيش على العطاء ليست لها علاقة بارتفاع سعر الدولار وليس فقط بالأزمة المالية والاقتصادية التى تعصف بالعالم, لكن الازمة تكمن أساساً فى نماذج الاعمال الهشه غير المستدامة لهذه المؤسسات بجانب عدم شفافية إدارتها المالية.

إن ما يحدث يجب ان يكون إنذارا لممارسى العمل الخيرى الذين توقفوا عند زاوية الاهتمام بالحملات التسويقية وجمع التبرعات للقضية التى يدعمونها وتحديث مقارهم ورفع المصاريف التشغيلية, وأهملوا عن جهل او عن عمد, نماذج الاعمال الاقتصادية المنضبطة مالياً، وهى الوحيدة التى ستضمن الاستدامة المالية وتضمن بقاء مؤسساتهم.

اليوم يطالب الناس الدولة بالتدخل وسوف يتبرع احد المشاهير لهذه المؤسسة او تلك, وسوف يتم إنقاذ اعمال عدد من المؤسسات بشكل مؤقت, ولكن غداً ماذا سنفعل فى الباقى؟ إنه انذار للجميع!.

لمزيد من مقالات ◀ د. عاطف الشبراوى

رابط دائم: 

Related Articles

Back to top button